هنا القاهرة -1-

Date
أكتوبر, 21, 2020

القاهرة من قلعة صلاح الدين – 2018

كانت زيارة مصر وتحديدًا القاهرة كبداية فكرة مطروحة بخجل ولم نحوّلها إلى حقيقة لعدة أسباب، ولكنها بدت مغرية وبشدة في عام 2018.. كنا بحاجة إلى إجازة سريعة في شهر ديسمبر لمدة لا تزيد عن 5 أيام، لمدينة قريبة وتكتظ بالثقافة والحضارة والوقت الماتع جدًا.. لذلك كانت القاهرة الخيار الأمثل.  

استقبلتنا أم الدنيا بمطار جديد ممتاز جدًا وفسيح، وبنفوس أهلها الذين لا يتوانون عن فتح باب للحديث والأخذ والعطاء بكل أريحية وطيبة نفس. منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى الفندق شعرنا بالرغبة والحماسة الشديدة للنزول في الشارع ومشاهدة القاهرة كما هي.. كانت رحلة التاكسي من المطار إلى قلب القاهرة ونيلها بمثابة عينة عطر نال استحسانك أو لقمة طيبة من طبق وددت تذوقه.. بدت القاهرة كعالم زاخر يحتاج لاستكشافه، والغوص فيه عبر رحلات متعددة والاهم من المعالم.. ناسها. كانت الشوارع مليئة بالمشاة، وراكبي الدراجات والدبابات، والجميع يستمع لموسيقى شعبية تحكي الكثير عن همومهم و الأكثر عن إحساس مرهف ربما؟.

لم يكن لديّ “لستة” صارمة سوا أننا وددنا بشدة الضياع في شوارع القاهرة ودخول مكتباتها ، ومشاهدة زحام السيارات الذي خشيت لوهلة أن الرياض في الطريق إلى هذا الزحام المميت. تجولنا بالأقدام فور وصولنا وبعد إيداع حقائبنا في الغرفة والتي كانت نوعًا ما مطلة على المتحف المصري وعلى بعد خطوات منه.. كان هواء ديسمبر لذيذ ولكن سماء القاهرة ملوثة. وصلنا إلى المتحف المصري والذي كنت أتشوق لزيارته ولكن كانت تجربة سيئة عكس ماتخيلته ولربما أفرد له تدوينة مختلفة.. لم يكن المتحف وتجهيزاته يوازي عظمة الحضارة والتاريخ الذي يحويه هذا المتحف.. خرجنا منه للتجول في ميدان التحرير ثم محاولة التلصص على نهر النيل ومشاته في نهار الجمعة واختيار مطعم لوجبة الغداء من المبطخ المصري المذهل.

وجدتني مذهولة من توسع القاهرة، إنه يشبه إلى حد كبير التوسع الذي تشهده الرياض الحبيبة الآن.. وجدت في القاهرة ما لم أجده في العالم الذي بدأت أجوبه وأشاهد منه ما يسمح لنا الوقت والمادة بمشاهدته، في القاهرة بدا جليًا و واضحًا جدًا حضور الناس وحياتهم في الشارع، أفراحهم، أتراحهم، يومياتهم، مخانقاتهم وخلافاتهم بالصوت العالي، ثم بعدها بلحظات التراضي والرجوع كإخوة، حفلات أعياد الميلاد في حدائق الأزهر، حفلات الزواج ايضًا في حدائق الأزهر، جلسات التصوير، الأحباب الهاربين خلسة عن الأعين، الكتابات الحالمة والطريفة على أحجار الحدائق.

في القاهرة وحدها استطعت التعرف على المحليين بلا فلاتر، على الناس كما هم، كيف يزاولون الفرح؟ كيف يتعاملون مع يومهم وأحداثهم ومدينتهم، كيف يقضون أوقاتهم ليلًا وكيف تبدو نهاية الأسبوع.

بدا لي سكان القاهرة شفافين جدًا، سائقوا أوبر شاركونا قصصهم بمجرد ركوبنا حتى أنني وفهد كنا نسأل هل نحن مريحين إلى هذه الدرجة؟ ثم اكتشفنا – المقلب اللي أخذناه بنفسنا- وأدركنا أن روح المصري شفافة وأحاديثهم تجري بانسيابية مع الجميع. أحدهم مضى يحكي لنا قصة عمله في السعودية وتنقله بين المدن لافتتاح فروع سلسلة محلات تجارية ثم عودته إلى مصر ، والآخر سألنا استشارات تجارية قد تساعده على ترويج بضاعته التي يبيعها عبر فيس بوك للتوسع والوصول إلى سيدات الخليج، وبدا منذهلًا حين أخبرته أن فيس بوك ليست المنصة المناسبة للوصول لنا. مررت له عدة اقتراحات و ملاحظات على الأسعار وماذا قد يكون ناجعًا ولا أعرف الآن هل حاول الوصول إلى عملاء في الخليج ام لا ولكني أتمنى له التوفيق.

تماهيت مع العمارة وتنوعها، فتارة تشعر أنك في أحد شوارع أوروبا وتارة أخرى تجدك خرجت من أوروبا إلى ما يشبه المباني في شارع الوشم بالرياض والكثير من البنايات القديمة بالرياض (صممها مهندسون مصريون آنذاك).. بدت القاهرة أصيلة على نحو غير معهود، على الرغم من غياب الهوية الطاغية لكني انتهيت إلى : هذه هي القاهرة. مزيج من كل ماصنعها عبر السنين الطويلة، احتلال ونهوض وأقوام تعاقبوا وبالنهاية تبقى القاهرة.. القاهرة..

تجولنا في الحسين لمدة يومين مرة في الصباح ومرة في المساء ولم أستطع تحديد أيهما أفضل؟ وهذا شيء سيصعب عليك تحديده بالقاهرة، ففي المساء تكتسب القاهرة هوية أخرى وطاقة مختلفة عنها بالنهار أكثر انتعاشًا و بهجة.. أما في الصباح فتبدو القاهرة كمدينة أخرى أيضًا لها سحرها المختلف عن سحر القاهرة الليلي. كان الحسين مطعم بالمقاهي الشعبية وعلى رأسها مقهى خان الخليلي الذي كانت زيارته تلح علي بسبب كثرة الحديث عنه، لم أجد في المقهى ما يعجبني كان مكتظ ويمتلئ برائحة الشيشة التي لا يمكنني التنفس حولها.. لم يعجبني المكان ولا أجد هذا المكان يقع ضمن تفضيلاتنا الشخصية، غادرنا سريعًا جدًا وأنا أقول لفهد: أنا كم مرة قلت لا نروح أماكن مشهورة عند السياح؟ ثم بعدها حاولت الحصول على بقايا وجهي لالتقاطه من الأرض لأن الذهاب للمقهى كان من اقتراحي 😊.\

قررنا الضياع في أزقة الحسين بدون هدى ولا وجهة حتى عثرت على هذا المتجر الذي أمضينا فيه وقت طويييل بالتأمل في مايعرضه، والحديث مع صاحب المتجر حول القطع المعروضة، عن هوايته في تجميع المنشورات التاريخية والحصول عليها ، والمحافظة عليها ونهاية بافتتاح المتجر.. شاهدت المتجر من الخارج وكأنه يشدني بقطع مغناطيس غير مرئية ، جذبني من بعيد منظر اللوحات القديمة، والمجلات والمنشورات التاريخية، وصوت أم كلثوم االذي يصدح من أسطوانة قديمة وجدت قدماي تسرع إلى الدخول.. وجدت عنده ما ارتوت منه روحي المحبة للتاريخ، ولكل ما له علاقة بالماضي والذكريات والتطور ، والتغير وعبور الزمن بدون شعور أننا نعبره.. وجدت صحفًا كتبت عن وفاة الملك عبد العزيز ، وفاة الملك فيصل، صحف كتبت عن النفط العربي، أظرف بريدية عن المملكة وعن جميع الدول العربية.. صور لأطفال وأناس في بطاقات بريدية ربما تكون من زمن الاحتلال؟  

هذا المتجر غنيّ وثريّ بكل ماتعنيه هذه الكلمات، والذي يضيف لتجربة زيارته والتبضع منه الشاب أحمد صاحب هذا المتجر والذي يبدو مولع جدًا بكل ما جمعه، واهتمامه الجلي بكل قطعة وإحاطته بتاريخها وظروفها ..

قضينا وقت طويل في هذا المتجر، تحسست الكثير من ماجمع، تصفحت بعض ما أمكنني تصفحه ووقع اختياري واختيار فهد على هذه القطع:

ظرف بريدي يحمل عنوان: المملكة العربية السعودية بين الأمس واليوم

صورة لطفل من عام 1913

عدد الاذاعة المصرية : جلاء الانجليز عن مدينتنا.

العدد السابع من مجلة: نفط العرب يحوي مقال كتبه عبد الله الطريقي.

انتهى يومنا الأول وعدنا إلى الفندق ، أسندت رأسي على الوسادة بعد يوم طويل مترع و فطنت أني في القاهرة وجدت جزء من نفسي هناك، على الرغم من أن هذا شيء لم أتوقع حدوثه إطلاقًا.. شعرت بالإنتماء للمباني القديمة، للحقب الماضية الواضحة في حاراتها ، مكاتبها، وحتى طرقها المهترئة.. كان بإمكاني التحديق في نهر النهيل لساعات طويلة دون أن أشعر بالضجر.. وجدتني قريبة للقاهرة أكثر من ما تصورته .. قريبة من كل شيء تحكيه القاهرة ، عن ثقافتها، حضارتها، تاريخها وضجيج الناس و”العربيات” فيها..

إلى القاهرة العظيمة: لم نتتهِ بعد .. حتى لقاء آخر..

أكتوبر 18, 2020

نوال القصيّر

5 Comments

  1. رد

    معتز

    أكتوبر 21, 2020

    قصة سفر وتصوير وتوثيق جميل للرحلة، ننتظر الجزء القادم

  2. رد

    هياء المشاري

    أكتوبر 21, 2020

    لوهلة تخيلتُ نفسي في القاهرَة، يبهرني السرد الذي يوقظ شعوري تجاه الأشياء والأماكن والناس، عودة مطرية بلّلت شغافنا الظمأى .. شكرا نوال ♥️

  3. رد

    Sarah

    أكتوبر 21, 2020

    الله! أثر فيّ سردك للغاية.. وأنتِ تحكين عن قاهرتي التي هربنا منها قليلًا في رياضكم ورياضنا بحكم المُقام.

    هجرت الكتابة منذ زمن يقترب من العقد، والآن هيجتِ شوفي لها، وسعيدة بمعرفتك منذ قديم الأزل ❤️

  4. رد

    رنا حمد

    أكتوبر 22, 2020

    أول تدوينة أقرأها لك ، كمية دفء غير طبيعية . زرت القاهرة قبل سنة تقريبا في أعماقي أحببتها لكني لم أستطع أن أبحر فيها جيدا، الآن أتوق لزيارتها مرة أخرى ل تقدير كل ما رأيته و ما لم أره.
    نوال شكرا لك لقد زرعت بي شيئا جميلا أصحبه معي في سفراتي القادمة إن شاء الله، عين متفحصة لا تكل و لا تمل حتى أجد أجمل ما في المدن

  5. رد

    الماريسي

    أكتوبر 6, 2021

    القاهرة مدينة جميلة، عيبها هو الازدحام.

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

موصى بقراءته