بين “ما أقدر” و “مو لازم”

Date
يوليو, 21, 2022

“ليس المهم هو ما تنظر إليه بل هو ما تراه” 

هنري ديفيد ثورو

يحدث كثيراً أن تبتلعنا “نعم” وأن نغوص في “لازم” و “يجب” ونضيع مع الآخرين ورغباتهم ثم ننسى أنفسنا. فَرَط مانريده حقاً وسط الزخم والضغوطات، توقفنا تماماً عند آخر حدود طاقتنا نتأرجح بين السقوط والعودة. دفعنا حافة مسؤولياتنا فشملت ضرورات وحتميات مخترعة. ثم وسط كل هذا؛ كان الاحتراق قريب والانهيار وشيك. لقد وجدت نفسي في هذه المعمعة من جديد ولكني توقفت،كما كنت أتوقف عادةً، ولكن هذه المرة توقفت برغبة وإدراك لحاجتي وقدراتي. لست مرغمة على التوقف كما كنت سابقًا حين أدفع بنفسي لخط النهاية وأضع قدمي لما بعد الخط ثم تخور قواي وأنهار وأتفكك.

إنني اختبرت كيف يمكن للكثافة أن تنهكني وكيف للسرعة أن تحرقني وما يمكن أن يفعله بي فقري إلى الاختلاء بنفسي، لقد عرفت أكثر من قبل كيف ممكن للزخم أن يفرّغني من الداخل فأصبح جوفاء. ولكنني هذه المرة توقفت.. توقفت بوعي وإدراك للحاجة قبل أن يصبح التوقف”وضع طوارئ”.

امتلئت أيامي بالأحداث، الجميلة والسيئة والعادية، اكتضت بلقاءات الأصدقاء الأعزاء جدًا والرحلات والمغامرات والكثير من الإحباطات على جوانب الطريق، ولكني افتقدت مواعيدي مع نفسي، الهدوء في جلسة مع شاي أعشاب أو كوب قهوة وحيدة أعيد فيها ترتيب كل شيء، التفكير والترشيح. لم أفتقد للوقت معي، إنما افتقدت جودة الوقت. شعرت أني أقول نعم لأشياء كثيرة غير ضرورية ، صحيح أنها كانت تملأني بالبهجة ولكنها تستنزفني وتجعل حياتي مكثفة على نحو لا أرغب به. أحب البساطة أكثر، والبطء وقليل من هذا وهذاك وليس كل ما هناك. وما أن أعود لهذه الحقيقة عن نفسي أصبح أكثر وعياً بما أرغب أن تكون حياتي عليه. في تلك اللحظة النورانية قبل أكثر من شهرين، توقفت عمدًا واختليت بنفسي لمدة ٣ ساعات في مقهى مفضل جداً ، علّقت مواعيدي مع الأصدقاء واعتذرت عن بعض الدعوات واخترت أن أوجه طاقاتي لاستيعاب ما يحصل خصوصاً مع أختي الحبيبة ومرضها المنهك. أدركت أنه من الطبيعي جدًا أن أقلص قائمة ما يجب أن أفعله وأن أستجيب مرات كثيرة ب: ما أقدر. لدي طاقة أرغب توجيهها لدعم أختي وأهلي ودعم نفسي لتقبل هذه الظروف عوضًا عن صرفها فيما لا يجب. لم أخجل من الاعتذار من دعوات كثيرة للخروج لتناول فنجان قهوة ولم أعد أبادر مثل قبل بالالتقاء في ساعات الصباح الأولى لأنني وبكل شفافية أحتاج هذه الوقت للمواجهة مع الظروف بدل من الهرب منها وأنني أستطيع أن أقرر متى يصلح لي الحديث ومتى يكون الصمت علاج. لقد حظيت بصداقات رائعة تفهمت هذا القرار وهذه الاعتذارات المتتالية وسأفعل المثل تمامًا في حالة رغبتهم بالتوقف كما فعلت دائماً.

اكتشفت جانب جميل جدا من الحياة يقع بين “ما أقدر” و “مو لازم”، ويكمن جمال هذا الجانب أنه من وجهة نظر شخص اعتاد على اللازم و النعم والخروج و الانخراط بشكل لا يشبهه كثيرًا. لا تبدو هذه المنطقة كمنطقة الراحة وإنما منطقة رؤية مختلفة، ومنطقة استكشاف وتأمل وإعادة تفكير. منطقة تفرغ فيها حمولة الأيام ثم تنطلق بخفة أكثر. مكان افتراضي يجعلك تدرك معنى أن لا تقبل دائماً دعوة لزيارة مكان ما حين لا تشعر بذلك، وأنه ليس لزامًا مشاهدة ما يشاهده الناس، ولا التبضع حسب ما تمليه ضرورات المجتمع الاستهلاكي. في هذه المنطقة تتلذذ ب”لا” حين تعلم أنها تمنحك نضج وحكمة الاختيار بما يتماشى مع قيمك وجبلّتك. في هذه المنطقة تدرك أنه من العادي جدًا أن لا ترهق نفسك محاولاً البقاء على تواصل مع كل شيء وكل أحد وقراءة كل الكتب ومشاهدة كل الأفلام واتباع جميع التوصيات والاحتفاظ بالمزيد من المعلومات في المفضلات المنسية. بل على النقيض من ذلك تدرك أنه من الجميل جدًا أن تكتفي بالقليل من الأشخاص الرائعين والمهمين لك فعلًا و القليل من المناسبات الاجتماعية والدعوات اللامنتهية. وأن يكون في جدولك المزدحم عادة مكان لك أنت وللنخبة المقربة في حياتك من الأهل والأصدقاء. قضاء وقت وافر بالمعنى بدلًا من تزجيته. “مو لازم” أرضي الجميع و “ما أقدر” أن أعمل على هذا الملف أو ذاك خارج ساعات العمل. “مو لازم” أستبدل هاتفي النقال فور صدور نسخة جديدة و “ما أقدر” أن أصرف هكذا مبلغ على مطعم باهظ الثمن وفقًا لميزانيتي. “مو لازم” أن أزور المكان السياحي في المدينة السياحية الفلانية، و “ما أقدر” أن أتجاوز موعد استعدادي للنوم هذه الليلة. “مو لازم” أن يكون المطبخ نظيف ولامع قبل أن أخلد للنوم. و “ما أقدر” أساهم في حل مشكلتك إذا لم ترغب في حلها أنت بالأساس.

بين “ما أقدر” ومو لازم” تكتشف العمق أكثر والبعد الآخر للحياة بشكلها المبسط، تستبين جمال البطء وأنه في بعض المرات من الأفضل أن نعيش التجربة ذاتها مرارًا وتكراراً وليس علينا أن نبحث عن الجديد بشكل منهك. بين “ما أقدر” ومو لازم” محطة عبور لوعي مختلف بالمعنى والدلالة، وجسر للوصول إلى تقدير أفضل لما مُنحناه. بين “ما أقدر” ومو لازم” مكان خصيب تتنسم فيه أنفاسك رائحة الهدوء وتستكين فيه حواسك بدلاً من محاولة اللحاق بكل شيء. بين “ما أقدر” ومو لازم” مساحة فضفاضة لعدم اليقين، وأن لا تعرف ماذا ستفعل عصر اليوم الفلاني أو من ستقابل مغرب الجمعة القادمة. بين “ما أقدر” ومو لازم” هناك ترف الوقت وإعادة ترتيب الأولويات ومراجعة الأجندات وربما قلبها. بين “ما أقدر” ومو لازم” منطقة ترشيح وفلترة “على كيف كيفك” لكل ماهو ضروري ولكل ما هو موجود لمجرد الاستنزاف. بين “ما أقدر” ومو لازم” أرض خصبة للمحاولة لإبطاء السرعة والتعلم من العمق بدلاً من التعدد والوفرة.

في عالم كثيف متسارع تطغى عليه التأثيرات من كل مانشاهده وكل من نشاهده هل توقفت قليلاً ثم تباطئت وأعدت حساباتك؟ هل فكرت كيف تعيش بشكل يجعلك متسق مع ذاتك أكثر؟ كيف تعيش معنى أكثر عمقًا وفقاً لقيمك ؟ بين “ما أقدر” ومو لازم” الكثير نكتشفه ونعود له بين الحين والآخر.

*هذه التدوينة لأصدقاء استكشاف هذه المرحلة: نجود البسام – ريم السلوم – منال الزهراني

* كتاب مقترح:

نوال القصيّر

6 Comments

  1. رد

    مريم

    يوليو 21, 2022

    سلِمت نوال و تنهيدتها التي اخرجت تنهيدات تدور في صدورنا و عقولنا … سَلِمتِ قولًا و فعلًا .. و سلّم الله لكِ اختك و ألهمها الرضا و الحمد و القوة به و صدق التوكّل عليه و حُسن الأثر و النقلة الروحية و النفسية و العملية بهذا الابتلاء .. طمنينا عنها

  2. رد

    أروى

    يوليو 21, 2022

    صديقتي العزيزة نوال. أشكرك على هذه التدوينة الرائعة والاستثنائية..
    منذ أن تعرفت على المساحة الرحبة بين ماأقدر ومو لازم تمكنت من التوازن وتقليل حجم الضغوطات الملقاة على عاتقي بين صخب الحياة ومتطلباتها التي لاتترك مجالا لراحة الذهن والقلب
    .. شعرت بالثقة والاستقرار والتكيف والقدرة على الإنجاز..
    بين ما أقدر ومو لازم أنا أتعافى أتشافى وأضيء..

  3. رد

    ميمونة

    يوليو 21, 2022

    عميقة وجميلة
    سلامٌ لقلبك وشفا الله أختك شفاً عاجلاً لايغادر سقما

  4. رد

    عائشة

    يوليو 22, 2022

    تخصيص وقت للذات وتجنب “الانحشار” بجدول مزدحم من اللا داعي هو بالفعل عيلم تنهل منه الأنفس أجمع ذات الجدول المكتظ والفضفاض على حد سواء

    شكرًا نوال

  5. رد

    هياء المشاري

    يوليو 26, 2022

    “شعرت أني أقول نعم لأشياء كثيرة غير ضرورية ، صحيح أنها كانت تملأني بالبهجة ولكنها تستنزفني وتجعل حياتي مكثفة على نحو لا أرغب به. أحب البساطة أكثر، والبطء .. ”
    بقيت عالقة عند هذا المقطع ! أجزاء كثيره مني انسجمت مع تدوينتك ♥️
    سلم الله قلبك نوال، وسلّم أختك وشفاها وجعل مواجعها بردا وسلاما.

  6. رد

    نوف

    يوليو 30, 2022

    جميل هذا العمق الذي توصلت له، أصبح اللهث في هذا الزمن أمرٌ طبيعي، قلّما ينتبه إليه أحد..

    “أن أنأى بنفسي عن كل توصيات سفر لا أرغب بها وأن لا أتعاطى مع “لايفوتك” و “لازم تجربين” هذا وذاك.”

    سلمتِ نوال

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

موصى بقراءته