السفر البطيء – رحابة القرى وإلهام الضواحي.

Date
أغسطس, 02, 2022

ضاحية Murten – سويسرا ٢٠٢١

لايمكنني نسيان حضوري الأمسية الموسيقية للمؤلف الموسيقي الايطالي: لودفيكو اناودي في دبي عام ٢٠٢٠ ( قبل عاصفة الكورونا)، كانت أمسية مليئة بالتأمل والعمق والذي منحه لي لودفيكو عبر موسيقى مستوحاة من عملية إبداعية تخصه، تخص الريف الذي يقضي فيه إجازته والمشي. لذلك أطلق اسم (٧ أيام مشي) على ألبومه لأنه استوحى المقطوعات خلال نزهاته اليومية في جبال الألب يتأمل الطريق والسماء وحدود الجبال المتراكبة ويعي تماماً كيف يختلف الطريق كل يوم. فيصنع نوتات بديعة تأخذك هناك وإلى كل مكان.

كيف أبدع لودفيكو هذه التحفة الموسيقية ؟ يقول أنه كان يقوم بجولات مشي كل يوم أثناء إجازته في سويسرا، يستمع للكثير من الموسيقى .. ويرسم مخطط أولي للمشهد الذي كان يمر به كل يوم أثناء مشيته.. وبالتحديد حدود جبال الألب وهي ترسم لوحة بديعة في سماء سويسرا، الانخفاض والارتفاع للقمم وتداخل الجبال مكونة مشهد بديع ويستحث في كل شخص ولا سيما الفنان إلهام قد لا يُنسى. لقد أحب اناودي فكرة استكشاف الجوانب العشوائية لرحلاته اليومية ولطالما شكلت العفوية عنصر مهم في مقطوعاته. كان تدفق أفكاره وانغماسه في ملاحظاته على نفس الطريق شيئاً أراد تصويره بالموسيقى. إن مساره هو نفسه إلى حد كبير خلال فترة إقامته ولكنه كان يختبره كل يوم بشكل مختلف.. كل يوم كان يؤثر فيه ويخترقه عبر تفاصيل مختلفة، يلاحظ شيئًا جديدًا، شيئًا ما تغير؛ حجر في مكان مختلف، ثمار ناضجة وأخرى جفت فسقطت. بدأ في تسجيل ملاحظاته وتأملاته كل يوم عن طريق توليف موسيقى عفوية متصلة لا تتوقف، تشبه نزهاته اليومية وملاحظاته حيث يكون العادي والروتيني إلهام يتعلق بالعين التي تلتقط هذا الإلهام.

لقد كان المشي في الطبيعية والجبال تحفك، والطريق الذي يقودك هو الملهم الأول للموسيقار في إبداع عمله، هذا ما تذكرته حين وقفت أتأمل جبال الآلب وهي ترسم لوحة خرافية على السماء.. جبال مرتفعة وأخرى تصغرها حجما وطولاً ولكن اختلافهم وتجانسهم هو ما شكل اللوحة. المشي بين الطبيعة والتماهي مع نسمة الهواء وأصوات الشجر حين تحركه الريح هو ما يجعلني أتوجه للقرى والضواحي حتى أمارس السفر البطيء، أو السفر الصحي. على أن مساحة المدن والعواصم تفوق مساحات القرى والضواحي إلا الرحابة تكون غالباً من صالح الأخيرة. تمنحنا الضواحي فرصة ممارسة الهدوء والاستجمام بذكاء. تجعلنا هذه القرى نتعرف على الثقافة أكثر و نتأمل السكان كيف يعيشون يوميهم.. أتجول في أسواقهم للحاجيات المستعملة وأختار بطاقات بريدية عمرها أكثر من ٢٠٠ عام.. نتذوق قهوة محلية يصنعها رجل كبير في السن وكأنه يمزج حكمته وخبرته في طريقة صنعه للاسبرسو الإيطالي. في القرى قد تقابل نفس الوجوه يومياً ثم تتجرأ أنت أو هم على فتح باب الحديث. فكم من سيدة بادلتني الابتسامة وانفتح باب حوار، وكم شاهدت ذات الرجل يذهب لنفس المقهى ويقرأ جريدة في مشهد كاد أن ينعدم. في القرى نعمة أن تعيش يومك كما ينبغي، الصباح للنشاط والليل للسكون. في القرى ضوضاء تكاد تكون منعدمة، لا أبواق مستمرة ولا بشر مستعجلين للحاق بالمواصلات أو بالأعمال، الناس هناك تمشي على مهل، تتبضع على مهل، تختار خبزها بعناية. تمشي بجانب النهر بتأمل مودّع.

الضواحي للغطاء النباتي النامي بقوانينه هو لا بقوانين مشذب الشجر، تتمرد الأشجار وتطول وتتداخل مع الغابات، تشمخ سنابل القمح وتصبح بطولك أو ربما أطول. إنها تمدد بلا حد فلا طريق تقطعه السيارات ولا مركز تجاري سيستبدله. هناك بعيداً عن ضجيج المدن تجد جزء من روحك، في الهدوء والسكون؛ في البطء تتعرف على نفسك من جديد. الضواحي للتأني، للأسواق المحلية الفريدة، للقهوة المحضرة بجودة، للفطيرة بمكونات مزرعة محلية. الضواحي والقرى للرحابة والإلهام. للسير الممتد، للابتسامات المتبادلة.

لقد قررنا الاستقرار في مكان ما في المنتصف وباستخدام سيارتنا المؤجرة نذهب كل يوم لقرية مختلفة، وقمة مختلفة لمشاهدة منظر مختلف، نتنزه على طرقها ونخترق أزقتها ونقرر الدخول بشكل عشوائي لمقهى محلي جداً يجعلنا نتذوق ألذ تيراميسو ، أنا التي لا تحب التيراميسو، ثم أتعرف على بقرة وأتأمل كيف تعيش وتأكل ثم ترمقني بنظرة وكأنها تقول: إنتي وش تبين الحين ؟

بقرة سعيدة في سويسرا

ثم لاتجعلوني أبدأ مع البقر، لا أعرف ما سر علاقتي الجميلة مع البقر؟ ولا أدري من أين أتى هذا الاستلطاف القديم.. أحلم أن يكون لدي بقرتين على الأقل على الرغم من أن آخر موقف لنا مع البقر لا يبشر بالخير، كنا في طريقنا البري في سويسرا فتوقفنا مع غيرنا حتى يعبر قطيع من البقر ويمضي إلى الحظيرة ولكن إحداهن كانت فضولية بشكل مضحك ولكن هذا الفضول تحول إلى كسر خفيف في المرآة الجانبية للسيارة. ولكني ظللت أقول لفهد:” هل تتخيل تقول جملة فيه بقرة كسرت المراية ؟” إذن انعم بهذه الكدمة الغريبة التي لا تكون إلا بالتواجد في الريف والطبيعة.

البقرة المتهمة

خلال رحلتنا البرية اكتشفنا قرى في غاية العذوبة والجمال وكأننا في فلم، قرى لا تشبه المباني الحديثة في شيء، لقد تمكنا أيضاً من اكتشاف قمم جبال والاحتفاظ بمتعة النظر من الأعلى و تقدير الأشياء الطيبة التي يمنحها صعود الجبل والتمتع بالمنظر من وجهة نظر مختلفة. مشاهدة البيوت وكأنها مجرد نقط على ورقة كبيرة، يا إلهي كيف نبدو لك أمام عظمتك ؟. وفي كل مكان أجدني أبحث عن زاوية أرى فيها المدينة أو القرية بشكل مختلف، يؤطرها قوس معماري أو أوراق الخريف أو من جبل يحدها ويحتضنها أو من بحيرة تمنحها زرقة ممتدة.

بحيرة مورتن – سويسرا

كانت مورتن في سويسرا اكتشاف لذيذ جداً ومفاجئة لا تشبه ضواحي الألب بشكلها المعروف ولكنها جميلة بطرزها الخاص، ممرات ضيقة وبيوت ينسدل منها نباتات جميلة في غاية الخضرة، وسنابل قمح تنبت حول شاطئ البحيرة. ثم ممر عبر قلعة يفضي إلى مشهد ساحر يخطف الأنفاس والأنظار. لقد كان المشي بين أزقة هذه الضاحية وممراتها بمثابة العلاج النفسي، كانت الأرض مفروشة بأوراق الخريف والهواء يحرك كل شيء، وينقل لك أصوات بديعة من القرية. لكم وددت أن أعلّب الهواء وصوت حفيف الشجر تلك اللحظة ولكني أدركت سريعاً أن جمال هذه اللحظات يكمن في أنها ملك للمكان وللذاكرة. انغمست وتركت لنفسي الحق بالاستمتاع بكل خطوة في هذه الضاحية.

هنا حيث جلست، تحفني الطبيعة وتقرصني الريح، هنا حيث فتحت قلبي للهواء والشجر والماء. هنا حيث جلست في مورتن.

في القرى والضواحي. تدرك أنه لا يوجد قائمة عليك شطب محتوياتها، ولا يوجد ختامية لليوم سوى أن تنزلق في سريرك وقلبك مسجور بما شاهدته اليوم. تقلب البضائع الفريدة التي حصلت عليها من سوق محلي عابر في أيام الآحاد. وتغرق في عادية يومك وهدوئه وتتذكر أن المسار نفسه كل يوم يمنحك معنى متجدد للإلهام كما منح لودفيكو.

نوال القصيّر

5 Comments

  1. رد

    لمى

    أغسطس 2, 2022

    يا سلام عليك💗
    استمتعت بكل حرف، يا لجمال فصاحة تعبيرك، شعرت بنسمة الهواء الباردة وتذوقت التيراميسو الاستثنائي وأحسست بمرارة القهوة، ممتنة لجمال كهذا!

    شكرًا نوال!

    • رد

      Nawal AlQussyer

      أغسطس 2, 2022

      شكرا لك يالمى.. ممتنة جدا والله

  2. رد

    حنين العميرة

    أغسطس 9, 2022

    وصلتنا الرحابة ولمستنا نسمة الهواء،
    وأضاء أعيننا النور في آخر النفق.
    شكرًا نوال على جمال الحرف والوصف والروح من خلفهما ♥️

  3. رد

    ريم

    أغسطس 14, 2022

    الله يعطيك العافية على بداية هذه السلسلة.
    رقة وشاعرية السرد زادت في داخلي حب وتيرة الحياة البطيئة، بالروتين الهادئ.❤
    متحمسة لقراءة ما تهمسين به في التدوينات القادمة.

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

موصى بقراءته