كتب وحكايات: الأثر والبصمة.

Date
مارس, 08, 2022

تعيش الكتب معنا وبيننا، تكبر بمضي الأيام وتكون عتيقة متى ما غزى الصفار أوراقها وتجعدت أطرافها.. تقبع منسية خلال سنوات ولكنها حية .. تنتقل معنا من منزل إلى منزل، تنتظر رف جديد ينقذها من التراص أو التبعثر على الأرض. تتنفس الغبار وتشعر بالبرد والقيظ مثلنا تمامًا .. ورقها يحكي تاريخنا، وظروفنا في مرات كثيرة تظهر من خلال عددها وأماكنها والأرفف التي تتخذها مكانًا لها.

لم أكن أعي تمامًا طريقة تفاعلي مع الكتب التي أقرؤها لغير الأغراض الأكاديمية، كنت أظن أن الأمر تلقائي وطبيعي حينما أمط خطًا متصلًا على سطور متعددة أجد أنها أيقظت فيني ما لم أتوقعه. وكنت أظنه أيضًا أمر بديهي أن أضيف لواصق على صفحات الكتب التي ألهمتني.

حتى وجدت أختي ذات مرة وقبل سنين عديدة ترمقني بنظرة استغراب وتقول: ” هي تحضر ماجستير وإلا وش قصتها” ؟ كناية على جديتي ربما في القراءة ؟ أنا التي لم أفسر هذه العلاقة بالجدية إطلاقًا وإنما بالاستمتاع والتنوير. ثم شاء الله أن أقرأ كتاب خلال ماراثون القراءة الأخير و عرجت على مقطع من كتاب اعترافات قارئة عادية تتحدث إن فاديمان في أحد المقالات عن علاقتها وأصدقائها بكتبهم فبعضهم لا يسمح بإعارة الكتب ويتمسك بكتبه بشكل مفرط وأسهبت قليلًا في الموضوع، فبدأت أفكر في أثري أنا على الكتب.

ومن هنا تنبهت إلى علاقتي مع كتبي، التي يؤطرها تفاعلي مع الكتاب ومحتواه. تأملت فوجدت أن لي نمطًا وطرزًا خاصًا بي في التعامل مع كتبي، وهو يتغير ويختلف باختلاف عمري و صفاء ذهني وحالتي النفسية – المتردية والعالية ٠ فحينما أكون في حالات تردي نفسي أرى أنني أزجي الوقت في تقليب الكتاب بدون وضع بصماتي عليه ، وكأنه اعتراف لا واعي أن هذا الكتاب قُرأ في وقت ليس له، فلذلك لا أريد لبصمتي أن تسجل آثاراها بعد، إنما علي إعادة قراءته عندما أكون بذهن متهيء.

ثم وجدت أني في حالات الصفاء أتفاعل مع كتبي بشكل يشبهني أكثر، فمرة ألجأ إلى لواصق على الكتب لتسجيل ملاحظاتي أو القبض على فكرة أخشى أنها ستشرد لو أنها ما كتبت وقيدت وفي سنوات سابقة كنت أتخذ الدفاتر مكانًا لتسجيل ملاحظاتي واقتباساتي. وتارة أميل إلى استخدام أقلام الهايلايت وهذا يحدث غالبا في الكتب المذهلة بالنسبة لمحدثتكم، الكتب التي تتحدث عن التحليل النفسي والاجتماعي للأفكار والمجتمعات والتاريخ. وتارة أجدني أميل إلى ثني أطراف الصفحات كعلامة مرجعية لصفحة تحوي نصًا مذهل أو فكرة جديرة بالرجوع لها. ومرات كثيرة تجد كتبي تجمع بين كل هذه الآثار،، خطوط قلم ، خطوط هايلات مشرق٫ و ملاحظات شاردة و ثنيات كثيرة و لواصق وعلامات فارقة وملونة.

وجدت أني أيضًا كنت أتبع طريقة أملاها علي عقلي في تقييد الحالة المناسبة لكثير من الكتب التي أقرؤها، فهناك كتب اعتقدت أنها مناسبة لي حين أمر بمطبات إيمانية، أو أسئلة دينية مقلقة ومنها حتى الملائكة تسأل لجيفري لانغ، وأخرى وجدتها مناسبة تمامًا حين يكون ذهني في حالة تشوش ويحتاج إلى القبول والترتيب، وهكذا وجدتني أضع الملاحظات في بداية كل كتاب ووددت لو أنني أتممت هذه العادة الطيبة..

ثم أن لي قصص وصولات وجولات مع فواصل الكتب، فأنا أصنعها بأشكال أظنها جميلة، وأشتريها أيضًا بأشكال بديعة، ولكن لا أعرف لماذا لم أستطع استخدامها بشكل مستمر، هل لأن الظرافة لاتليق بي؟ ستجد كتبي تفصلها فواتير ، و كمامات ( تماشيًا مع الأوضاع الراهنة) وبطاقات عمل أحصل عليها من جميع الأنحاء أو بطاقات إهداء خطها لي الأصدقاء مع باقة ورد لمناسبة ما، أحيانًا أتخيل غضب الفواصل البديعة واحتاجها على انعدام دورها في مكتبتي وكأنها تقول لي: لماذا تشتريني مادمت سأظل حبيسة الأدراج ؟

كتاب من بين كتب عديدة تضرر بوصول بعض المياه لصفحاته أثناء النقل من منزل إلى منزل.

لم يغفل عني إطلاقآ ولعي بالكتب حين تشيخ في مكتبتي أو تعيش ظرفًا وتنجو. كأن يتم إنقاذها من ماء كاد يذيب حبرها ويفتت ورقها، أو تملصت من عنف عمّال النقل من منزل إلى منزل حين هوت بين أيديهم مراراً وتمت رميها بقسوة في صناديق النقل وتحمّلت مطبًات الرياض. كل هذه الظروف وأكثر تضيف لكتبي قيمة خاصة جدًا يصعب علي معها التخلص منها. لقد أصبحت جزء مني وعاشت معي، كبرت، وتجاوزت وتعثرت معي.

كتاب قريب إلى عقلي ظهر الصفار على صفحاته..


أثناء مشاركتي في ملتقى أقرأ السنوي اُستضيف الدكتور عبدالله البريدي وكانت محاضرته في غاية الامتاع بالنسبة لي خصوصًا عندما عرّج على طريقة قراءته وتعامله مع كتبه وشرح لنا كيف يقوم بعمل فهرس خاص به في بداية الكتاب ويدون ملاحظاته وإضافاه على هوامش الصفحات فتبدو مزدحمة جدًا – وبديعة في نظري- فتذكرت مسودة مدونتي هذه وقررت أن أقوم بإضافة تجارب القراء مع كتبهم وأن نحصل منهم على جولة سريعة داخل كتبهم. سألت الدكتور عبد الله أن يشاركني كيف يقرأ وكيف يتعامل مع الكتاب ويقيد أفكاره وما اكتسبه وكان كريمًا بمافيه الكفاية أن يشاركني صور من طريقته البديعة جدًا:

فهرس الدكتور عبد الله الخاص.


في الملتقى ذاته حظيت بامتياز التعرف على قراد يافعين وأحد هؤلاء القراء الرائعين فتاتي المفضلة مريم الفيروز والتي افتتنت بقراءاتها وكيف تقرأ وتفهم وتتفاعل ماتقرأ، فسألتها أن تكتب لنا وتشاركنا كيف تتعامل مع كتبها:

أحب أن يكون لكل كتاب حكاية ما، أحدد الأسطر باستمرار بأقلام تمييز متعددة الألوان وإذا خانتني الألوان استخدم الرصاص لذكر بعض الافكار على الهوامش أو السخرية من كلمة ما. أحيانا أرسم دوائر لا نهائية حول فكرة أعجبتني ولا أكف عن ذلك حتى اتحدث عنها عند شخص غير مهتم تماماً. تأخذ الكتب الكبيرة عندي نصيبها من بقع القهوة أو شاي، وتلك التي تضج بالالم والمعاناة أو الشاعرية والحلم يكفيها شلالات دموع في بعض الأحيان ولا أنسى أن أطوي بعض الصفحات بنية الإلقاء . ولذلك لا أحب اعارة كتبي لأحد إذ أنني أعامل هذه المادة الورقية كمادة خاصة عاشت معي أيامي بحلوها ومرها.

مريم الفيروز


أثناء تصفحي لتطبيق انستقرام أمرّ – متى ما سمج لي الوقت والمزاج – بحب على قصة العذبة دلال العمودي وكانت تتحدث عن نسخة من كتاب مفضل لديها وأبهرني كيف كان الكتاب – خاص- بدلال أي على طريقتها ، وفيه الكثير من بصمتها بالملاحظات والأوراق والتخطيطات والألوان وحتى انتمائه لرف مكتبة بديعة وكيف أحاطته بالورود والأخشاب أدركت حينها أن كل كتاب يتخد طابع صاحبه وطلبت منها فورًا أن تشاركنا التدوينة بصور حصرية وكانت أكرم من كرمها المعتاد. تقول دلال:

تشدني الطبيعة المشتركة بين علاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقته بكتابه؛ فكلاهما ندماء الزمان، وكلاهما قرائن تستدل بها على صاحبها.  ولمّا كانت الكتب كالأصدقاء على مراتب وجدانيّة وتخضع لجملة من التصورات والتفضيلات؛ كانت طبيعة التعامل معها متّسقة مع مقدار الميل والمشاكلة = بعضها قريبٌ موافق، وبعضها جعلته الأسباب مرافقًا قسرًا وإن لم يتّسع له قلب صاحبه، ومنها ما كان ضروريًا، ومنها ما كان آنيًّا يقطع المرء به ساعات عمره أُنسًا، ومن بين كل هؤلاء ما كان محوريًا في حياة الإنسان؛ يعود لساحله كلّما تآكل صبره وتشتت عزماته وتاهت خطاه فيردّه من لجج دواخله إليه صافيًا من بعد كدره؛ وهذا ممّا يستدعي معاملة خاصة؛ يسكب فيها المرء نفسه داخل قالب مصنّفه، فتتمازج الأرواح على الصفحات تمازجًا يرفع من قيمة الورق مذ حمل أنفسًا وعقولًا. وفي هذا السياق أحب كلمة أبو زيد النحوي: «لا يُضيء الكتاب حتى يُظلِم» في إشارةٍ لتقييد الفوائد على الطرر من فرط العناية والإقبال على العلم، ولو عدنا لمطلع القطعة فيما يتعلّق بطبيعة العلاقة بين الكتاب والإنسان فهذا حال المرء في حياته؛ لا يضيء حتّى يظلم بالتّجارب والعبر داخل دفّتي الكتب وأعطاف البشر.

في حديثٍ ماتعٍ مؤنسٍ ذات أمسيّة هادئة؛ قلتُ: “علاقتي بالكتاب علاقة مقدّسة، قد جاوزت علاقة الصديق التي هي أصل كل علاقة -في ظنّي-، وتسامت وتعالت حتّى بلغت علاقة الأخلاء التي توجب مزيد عناية ورقّة وألفة وتناغم وانسجام” وعليهِ فمحدثتك ممّن تحرص على أطراف كتبها حرصها على بنانها -ومثلي خليق بمثل هذا الدلال والتدليل طبيعة وسجية-، وأنا على كلّ هذه العناية والمعاملة المترفة ألتذّ بمحاورة الكاتب على حاشية كتابه، فأضمّ الفكرة الموافقة التي تهبط عليّ في ساعتي تلك للفكرة المعروضة في مجمل حديث المؤلّف، وأعلّق بما يقتضيه الحال ولو كان بقدر مرجعٍ متّسق أو رأي استملحته كنتُ قد أحسنت وفادته من أصحابه حتّى استقر بي مضمونه وخالط نفسي وساير حركة الأفكار في رأسي. ولعلّي -غالب الأحيان- أمرّر قلمي الأصفر حذو السطر بالسطر، ولكنّي متى انسجمتُ دوّنت بالحبر الجاف ما طاب لي حتّى أفهم ولو زاحمت الأسطر، ولعبد الفتّاح أبو غدّة كلمة بديعة في هذا ما أفتأ أدندنها طربًا يقول: «العلم يُتعشّقُ بالفهم» وأوّل الفهم -عندي- الملازمة والمزاولة، فإن أحسنت في هذا وهبك النديم سرّه الذي في أحشاء معناه ودلالاته؛ مقبلًا مطواعًا تقلّبه كيفما شئت، وتستنطقه فينطق دون مزيد جهد.

طلبت منّي النديمة الموافقة نوال نموذجًا؛ فكان “أسرار البلاغة”؛ أحبّ الكتب لقلبي لا لمحض بداعته -وهو فوق هذا بدرجات-، بل لأنّه كان أوّل ما درست -من خلف الشاشة- على يد شيخ البلاغيين -حفظه الله- أ. د. محمد أبو موسى، فكانت لذائذ مركّبة، بعضها فوق بعض.

دلال العموي

وهكذا نحن، نمضي ونترك أثرًا يتعقبنا في كل ما نلمسه.. ،ما أجمل الذي نتركه في كتبنا.

نوال القصيّر

3 Comments

  1. رد

    aniss

    مارس 9, 2022

    مقالة مفيدة، لكن في رايي اليس هذه الممارسة ظلم في حق الكتاب، وانانية في حق الاخرين، لانه مع الوقت يصبح الكتاب ورث. مع احترامي وتقديري.

    • رد

      نور

      مارس 10, 2022

      يبدو أن احترامك للمادة طغى على احترامك للفكرة و القيمة الإبداعية ، فلن يحصل لك بالتالي تذوق ، و إن هالك ضياع الورق فاستعجله في مضان استحيي من ذكرها ، ثم إن الرفوف مزدحمة بالكتب العذراء فلا وجه لهذا النحيب.

  2. رد

    نوره مبارك

    مايو 6, 2022

    استمتعت بقراءة التدوينة جدًا! ♥️
    وتفكّرت في طريقة معاملتي للكتب أثناء قراءتي لتجاربك وتجارب القراء الذين شاركونا، سبحان الله لكل منا طريقته

    شكرًا نوال

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

موصى بقراءته