الكتاب الخامس: التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور

Date
يناير, 05, 2017

 

إن كان علي لزامًا أن أختار كتاب واحد فقط من بين كتب عديدة أفادتني وغيرتني فبدون شك سأختار هذا الكتاب الأسطوري بالنسبة لي. لا أعرف كيف أتحدث عنه بالطريقة المناسبة لما يحتويه، ولكن يكفيني أني سأدرج عنه مراجعة كتبتها فور قراءتي له وكلّي أمل أن يصنع بك هذا الكتاب ماصنعه فيني وأكثر. أُكنّ الكثير من التقدير والحب لهذا الكتاب، فلقد ساعدني على فهم مايجري حولي والكف عن الكثير من الأشياء التي كنت أمارسها بدون وعي، لقد قفز بمنسوب الوعي عندي إلى مراحل لم أكن لأصلها لولا الله ثم هذا الكتاب. إنه الكتاب الذي ثرثرت عنه كما لم يثرثر أحدهم عن كتاب من قبل، منذ سنة 2011 وحتى هذه اللحظة لازلت أثرثر عنه وأوصي به وأتحدث عن قصتي في اقتنائه والمساعدة على انتشاره. لا زلت أذكر تلك المصادفة العجيبة والجميلة، حين كنت في العمل أتحدث ودّيًّا مع موظفة في شركة نعمل معها و وصل بنا الحديث عن الكتب إلى أن قالت لي أن هناك كتاب خرافي تعرفت عليه من مراجعة شيّقة و”هبلة” في القود ريدز، وبسرعة البرق اقتنت الكتاب لوالدتها لعلمها بأنها تحب الكتب، حتى نكتشف بالمصادفة أن المراجعة الهبلة هي مراجعتي، وأنا التي تتحدث أمامها ولا تدري. ضحكنا كثيرًا وزاد حب الكتاب في قلبي لا سيّما وأنه قاسم مشترك لأشياء جميلة حدثت لي ولا تزال تحدث الحمد لله.

 

 

أتترككم مع المراجعة “الهبلة” للكتاب :

أولاً: دعوني أقول لكم وأحذركم ربما ، أن هذه المراجعة غير خاضعة لأي معيار أو قانون ستجدون فيها من الخرندعية والغير منطقية وربما المبالغة، لكني أكتب تحت تأثير هذا الكتاب، تحت تأثير هذه الدراسة الدقيقة جدًا لدرجة أني لم أتوقع أنه سيأتي يوم وأقرأ كتاب مثل هذا .

ثانياً: هل تسمحون لي بصفع نفسي ( كف ) لأني لم أقرؤه في اللحظة التي اشتريته فيها من معرض الكتاب؟ حسنا عدنا انتهت الصفعة.

ثالثًا: هذا الكتاب أربكني وهزني وغير مفاهيم وشككني في مفاهيم وأخبرني بجهلي فلذلك أثره علي ليس بالضرورة أن يكون ذات الأثر عليك لاختلافي عنك. فلاتحاسبني بما أكتبه عن هذا الكتاب إن لم تجد فيه ماوجدت فيه أنا ..

رابعًا:
لم يسبق لي أن أبكي في كتاب أكاديمي- فكري – نفسي 😐 لكني في هذا الكتاب بكيت ولاتسألني من أين لك هذه الدموع. لا أرى أنها دموع (دلع ) بقدر ماهي دموع ندم على كثير مواقف اتخذتها تجاه كثيرمن الأشياء، كنت أشعر أني بطلة وما لبثت أن عرفت اني بطلة في الجهل.

خامسًا:
آآآخ لو كنت أستطيع أن أشتري ١٠٠ نسخة على الأقل وأقوم بتوزيعها على كثير من الناس وبعض النخب والدعاة والوعاظ . ولا تسألني لماذا .. اقرأ الكتاب بنفسك.

 

الكتاب عبارة عن دراسة دقيقة وافية جدا ومخلصة جدًا، أقرب ماتكون للكمال رغم اختلافي وشكي تجاه بعضه، لكنها دراسة محترمة ومشرّفة. دراسة لاتعتمد على قال فلان الأجنبي وقال علان الأوروبي، لا يعطيك خلاصة دراسات سابقة جمعها، بل هو يدرس المجتمع مستندًا على أشياء كثيرة وينظر و ينقح .. لم أشعر أن الدراسة ينقصها شيئًا علميًا.  يقول مصطفى حجازي: ” لم نستعرض في هذا البحث سوى بعض الملامح البارزة لبنية التخلف الاجتماعي، وما تولده من سيكولوجية خاصة عند الانسان المقهور. كما أننا لم نتناول بالبحث سوى بعض الأساليب الدفاعية الأكثر بروزًا التي يجابه الإنسان المتخلف من خلالها مأزقه الوجودي. هنالك لاشك جوانب هامة كثيرة على كل صعيد لابد للأبحاث الميدانية أن تكشف عنها، فالميدان لا زال بكرًا، وقد يكون ما يخبئه من معطيات أهم وأخطر مما ظهر لنا منها. “

هذه دراسة مستوفية لما جاءت به لكنها في نظره تحتاج اإلى الكثير من العمل لكي ندرس بيئة التخلف وأثرها على الانسان المتخلف المقهور، وأن هذه البيئات لاتناسبها إلا دراسات بيئتها ذاتها، وعلم نفس خاص بها.
يقول مصطفى حجازي أن هذه الدراسة تحتاج إلي مايدعمها من دراسات أخرى ، أي أنها بالتأكيد قد يعتريها نقص – خطأ -شك أوغير ذلك كونها دراسة أولى لميدان لازال بكر على حد قوله.

يتكون الكتاب من مقدمة و تسعة فصول تقع في قسمين هما :الملامح النفسية للوجود المتخلف و الأساليب الدفاعية. القسم الأول يرسم صورة نفسانية للوجود المتخلف بين الجماهير العفوية الأكثر غبنا.. ويدرس الظروف والبيئة الاقتصادية والسياسية الخ أما القسم الثاني يتحدث عن الأساليب الدفاعية وردات فعل الانسان المقهور ، قيمته في نظر نفسه وفي نظر الآخرين.. ودراسة اختلال التوازن الوجودي والحاجة لهوية و كبرياء .. والكثير في هذا القسم.

يختتم الكتاب بخلاصة تلي فصل رائع ، ربما نحتاج جميعا أن نقرأه ونعيه جيدًا وهو الفصل التاسع بعنوان: وضعية المرأة ،  لم أستطع إلا أن أبكي في كثير من المقاطع. لأنني امرأة لحظت ماقاله على نفسي وفيمن حولي من مختلف الطبقات ومختلف الثقافات.. تظل تدخلات القهر صارمة مهما اختلفنا.. مؤلم هذا الفصل مؤلم.

أذكر أني مره قلت وكتبت في تويتر: أن المرأة هي مقياس المجتمع، توازنه أو إفراطه أو تفريطه إما الكبت أو التوازن أو الافراط في الحرية لدرجة الابتذال. فوجدت في هذا الكتاب مايشرح هذا الكلام بشكل علمي ودراسي دقيق ، يقول : “المرأة هي محط كل تناقضات وتجاذبات الإنسان المقهور في العالم المتخلف. وتحليل وضعيتها ومكانتها يكشف أكثر من أي شيء آخر خصائص الوجود المتخلف ومأزقيته. فعليها تصب كل التبخيسات وكل المبالغات في القيمة. وتجاهها تبرز كل التجاذبات بأفصح صورها. وضعية المرأة في المجتمع ما تلخص الصراعات الأساسية والمآزق الأساسية لهذا المجتمع.”

لا أجد أكثر دقة من هذه الملاحظة الرائعة.. الآن يجب أن نفهم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام بطريقة أخرى بطريقة أوسع من أن الفتنة في المرأة ليست جسد فقط.. بل أنها مقياس واختبار لرجولة الرجل في تصرفاته معها من حقارته في احتقارها. الفتنة تصورناها فقط جسدية وريحة عطر ونقاب وكحل،، لكنا لم نتصور أن حديث الرسول الحبيب أبعد من ذلك بكثير لأن بيئتنا تملي علينا التفكير في قضية واحدة فقط ( المعاكسات ) ولكن الفتنة أكبر من ذلك بكثير..  آخر فصل كان فعلًا ختام مذهل لكتاب مذهل..

شعرت أن الكتاب هذا و مهزلة العقل البشري و طبائع الاستبداد رغم بعض علاتهم الا أنهم كانوا كالعزاء لي.. أشعر أنهم (يعزوني) في كل مانعيشه الآن سواء في أنفسنا او في من حولنا..  هذا الكتاب كان بمثابة الشيء الذي رفع عني غمة فكرية.. تعودنا أن ننتقد وجودنا كعرب وسوء حالنا.. حتى ان مذمة العرب صارت حرفة و ومصدر شهرة.. هل تريد أن تكون مضحكا وكوميديا وستاند اب كوميدي، انتقد العرب والسعوديين حتى تشبع، هل تريد أن تصبح ذكيا ويشار لك بالبنان ؟ سهلة انتقد نقد لاذع في العرب وقل اننا متخلفون.. في الفترة الأخيرة كرهت هذا الوضع، كنت أشعر أنه غير صحيح فحسب و كرهت نفسي عندما كنت أذمنا بطريقة غير عقلانية . ومن يتابعني بتويتر سيلاحظ ملاحظتي تلك.. ثم جاء هذا الكتاب وأنقذني.  شرح لي أشياء كثيرة والأجمل انه لم يأت على سبيل نقدي ، بل دراسي وتوضيحي فحسب،، في فترة كنت لا أطيق فيها الحديث عن نقائص العرب. أنا اشعر بامتنان عميق للدكتور مصطفى ،، امتنان عميق جدًا جدًا.  بدأت اراجع نفسي ومواقفي وانتقاداتي،، وأن مانحن فيه ليس وليد اللحظة بينما هو ناتج من تراكمات وسيكولوجية ان لم نفهمها فلا نهاجمها بجهل،جعلني أعيد هيكلة تصرفاتي تجاه وضعنا، وأننا نستطيع أن نتخلص من القهر حالما نعمل عقولنا ،  لاتتوقع من الكتاب الذم والتحقير،، ستشعر بأن الكتاب أبعد من ذلك، الكتاب هو توضيح للتخلف،، أشياء كنت تستغربها ستفهمها، أشياء كنت تشعر أنها تقيدك لأنك لاتجد لها جوابا..

الكثير الكثيير من سطور هذا الكتاب جعلتني أشعر بحرية.. حرية فعلا عندما فهمت. وعندما شعرت أن هناك عدة أوجه وأن مايصلنا هو ليس الوجه الوحيد، وأن ما يُحشى في رؤوسنا ليس بالضرورة أن يكون صحيحا انما هو انعكاس لبيئة مقهورة. أشعر أن الكثير يدور في داخلي ولكني لا أعرف كيف أقوله بالكلمات الصحيحة .. بعض المقاطع هزتني.. أربكتني كثيرا.. شعرت أني لم أعد أعرف نفسي ولا مبادئي من أين جاءت وتبعا لماذا،، شعرت أني بحاجة شديدة لاعادة النظر في اشياء كثيرة ، وأن علي أن أعيد النظر والتراجع عن بعض المواقف وبعض المبادئ وبعض المعتقدات. ومن هنا يبدأ التغيير.

تناول المؤلف الدراسة بدقة كبيرة وقدرة فتّاكة على الملاحظة والربط والتحليل، لدرجة أنه تناول موضوع الطعام وعاداته وعلاقته بالمجتمعات المتخلفة والمقهورة.. الحقيقة أن هذا الكتاب سيرفع سقف تقييماتي للكتب من هذا النوع،، أقولها بصدق لربما هذا الكتاب كان من أكثر الكتب التي تقدم دراسة علمية ونفسية على مستوى عالي جدا جدا جدا. ذكائه في ربط الأمور وتحليلها يجعلك تشعر أنه كاتب يحترم القارئ بشدة.. أعجبني حديثه المسهب عن القدرية وعن التلعق بالرموز والابطال المخلصين، وحديثه المقتضب الجميل عن علاقة الأمثال الشعبية بالبيئة والوضع الفكري للمجتمع. لطالما احتجت هذا الحديث.

قد أختلف مع الكتاب في بعض الأشياء وقد أشك في بعض الأشياء لأني لم أفهمها تماما.لكنه وبجدارة كتاب هزني وأربكني وجعلني بشدة أضع نفسي تحت المجهر وأتراجع بسرعة عن مواقف كثيرة وأتخذ قرارات أخرى .. أود أن أقتبس كثيرًا، لكن ليس هناك مجال، الكتاب كله يستحق القراءة . أنصح الجميع بقرائته ، وأنا أعلم اني سأعيد قرائته مرات كثيرة. من النقاط التي أعجبتني في الكتاب أسلوب الدكتور مصطفى رغم أني سمعت أن أسلوبه صعب قليلًا وثقيل لكني لم أجد أي صعوبة في الفهم أو المصطلحات وأجد أن أسلوبه مفهوم رغم عدم البساطة الواضحة.  وجود ملحق للمصطلحات مرتبة ترتيبا أبجديا وشرح كل واحد منها بإسهاب ساعد كثيرا على فهم الكتاب بأفضل طريقة.

أنصح بالكتاب وبشددددددددددددددددددددة .. من الكتب النادرة التي وددت لو أخرج للشارع وأصرخ بصوت مرتفع: اقرؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤؤووووه.

نوال القصيّر

7 Comments

  1. رد

    هياء ابراهيم

    يناير 5, 2017

    فعلا فعلا مراجعة تحمّس للقراءة !
    خصوصا نقطة انتقاد الشعب لنفسه وتحويله لنكت ومهازل !!
    متحمسه أني أفهم وأعي .
    ما قدرت اشوف وين ‘الهبالة’ بالضبط ^^”
    لكن قد يكون للكلمة دلالة أخرى غير الدارجة :]

    ربي يبارك فيك نوال ()
    وأحب أقول لك أن من أجمل الأشياء اللي سويتها من فترة، إني اشتركت بالقائمة البريدية بحيث ما تفوتني أي تدوينة ()

  2. رد

    Nawal

    يناير 5, 2017

    @هياء ابراهيم:
    ههههههههههههههههههه أتوقع إنها قالت هبلة عشان الصفعة في البداية وكلمات مثل خرندعية 🙂
    ومن أجمل الأشياء عندي إنك ضمن أصدقاء المدونة .. شكرًا هيا للدعم والكلام الطيب

  3. رد

    مرام

    يناير 5, 2017

    اعجبتني حماستك تجاه الكتاب وانا متابعة جديدة لمدونتك ومواضيعك مشوقة ومتنوعة واكثر شي يعجبني شغفك بالمكتبات لاني مثلك احب المكتبات جدا

  4. رد

    ريمان مرجس

    يناير 7, 2017

    مقدمتك شجعتني جداً جداً
    وعندما ربطتيه بكتاب علي الوردي أصريت على اقتناءه قريباً بإذن الله
    جزاك الله خير 💛

  5. رد

    سين

    يوليو 8, 2017

    تحمست أكثر لقرائته! هل لك أن تدليني في مكان يكون فيه متوفر للشراء او الاعارة ؟ شكرا جزيلا على هذه المراجعة المثيرة بحق

  6. رد

    وجدان

    أكتوبر 21, 2020

    سأقرأ الكتاب بعد تعقيبك عليه يا نوال

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

موصى بقراءته