أمي وأبي / أشخاصي العظماء

Date
أبريل, 03, 2016

 

أول تدوينة في تحدي التدوين لشهر أبريل 2016: دوّن عن شخص / أشخاص عظماء في حياتك

فكرت كثيراً قبل أن أكتب هذه التدوينة .. هل يبدو مستهكلاً جداً و تقليديّا جداً أن أكتب عن عظمة أمي وأبي ؟ ففي الغالب يرى الإنسان أمه و أبيه عظماء خصوصا بعد أن يكبر ويدرك حجم التضحيات التي قدمها والديه له .. لذلك قررت أن التقليدية هُنا محمودة وإذا كانت في سبيل كلمة طيبة في حق أمي وأبي فيا أهلاً 🙂 ..

Parents2016-2

أمي وأبي لم يتلقيا تعليماً مدرسياً يوماً ما.. كان على أبي كما يحكي أن يقدم تضحية كبيرة وأن لايذهب إلى المدرسة في الوقت التي كانت فيه طفرة التعليم قوية جدا، وتغير مستقبل الدولة وأفرادها بعد أن أصبح التعليم واقع والاستعداد التام للدولة لدفع أفرادها للتعليم.. لم يتلقى أبي من بين إخوته التعليم المدرسي، ظنا منه أنه يجب أن يبقى مع والديه وأسرته وأخواته حتى يعولهم ويقدم لهم العون المادي والجسدي .. قرار كان بمحض إرادة أو بتضحية ، أيا كان إلا أنه قرار عظيم..  كانت أمي أيضا تستطع التعلم لولا أن المجتمع آنذاك لم يقبل بتعليم الفتاة كما هو عادة مجتمعنا في رفض الجديد.. لم تذهب أمي للمدرسة ولم تتعلم الحروف وبقيت في بيت أهلها تفعل ماتفعله الفتيات ذلك الوقت، حتى تزوجها أبي ..

أمي وأبي لم يعيشا رغد العيش في بدء حياتهما، تعود أبي النهوض باكرا والعمل وكان على أمي التركيز على الأطفال والمنزل والواجبات الاجتماعية في ظل شح المادة فلا تستطيع استخدام مساعدة من عاملة منزلية، لم يكن لديهما ذلك الامتياز المادي .. لقد تخلت عن أشياء كثيرة في مقابل تربيتنا وتوفير مانحتاج.. أمي ذلك النوع الذي تترك لنا ماتبقى من الطعام رغم اشتهاءها له ، خشية أن نكون نرغب به .. أمي من صنف النساء اللاتي تربي و ترعى أطفالها – وأحفادها لاحقا- بكل حب و عطاء ولاترغب بشيء بالمقابل.. أمي التي لم تتلقى تعليما مدرسيا يوما ولا شهادة معترف بها تدرك أكثر من أي امرأة متعلمة أخرى أن التربية واجب وليست تفضل على الأبناء رغم عظمها.. قدم لنا الكثير ولأبناء عمي الذي توفى في سن باكر.. لم تكن المهمة صعبة بل أجزم أنها كانت مميتة وعظيمة الصعوبة لكن من أقدر لها غير أبي العظيم؟

أمي لاتعترف بنداءات ساذجة كـ”عيشي حياتك أولادك بكرا مب نافعينك” وكأن التكاثر هو المطلوب فقط، وتعرف الموازنة تماما بين واجباتنا عليها و واجباتها علينا.. أعطتنا بسخاء فصار حتميا علينا أن نعطي بسخاء رغم التقصير .. كانت ولازالت تعد طعاما شهيا جدا جدا ولا يصبح ألذ إلى حين تخلط لي الجبن والطماطم بيدها، نفسيا يصبح لذيذ جدا لي ولا أعرف كيف أصنعه كما تصنعه لأنه ببساطة “طعم أمي”.. أمي تتسامح كثيرا مع الآخرين، تساعد المحتاجين، يعرفها الفقراء، تحافظ على النعمة بطريقة مذهلة لم أستطع محاكاتها بعد. تحب الأطفال وهم يعشقونها بدرجة مذهلة جدا جدا.. بنات أختي ينعتونها دوما بـ: ملكة جمال العالم، و “يقبصون” خدودها من باب الاستلطاف ، وابن اختي الذي لم يبلغ السنتين بعد يحتضنها ويلجأ لها في كل مرة نوبخه، ينتظرها عند باب دورة المياة بالمناديل حتى “تتنشف” ويخبرها حين يرن الجرس أو الهاتف .. أمي تعرف تماما معنى الحياة عبر: keep busy living or keep busy dying – انشغل بالحياة أو انشغل بالموت.. تصر على فعل كل شيء بنفسها، تبرع في تدبير أمور المنزل بشكل عجزت عنه في بيتي الصغير ..

أبي يدرك تماما أن البخل لا يعرف طريقه إلى منزلنا مهما كانت الحياة صعبة آنذاك.. لم أشعر بنقص يوما فدائما يعطيني ضعف المبلغ الذي أحتاجه .. أبي الذي لم يدرس يوما كيف تدير الميزانية وكيف تستمثر استطاع أن يغير حياته و يدخر ويستثمر استثمار صغير جدا يكفيه ويكفينا ويزيد ولله الحمد .. لم يتعود على الرفاهية ولا يريد وأغبطه جدا على ذلك .. يحب العلم ويفرج أشد الفرح بتفوقنا ، وعلى استعداد تام لصرف مالديه مقابل تعليمنا وتفوقنا بالمدرسة والجامعة .. كان ينتظر نهاية كل فصل دراسي حتى نبشره بالتقدير الممتاز وكنت دائما أتحسس البهجة في محياه حين أخبره : يبه الحمد لله نسبتي هالترم 99% . أو في الجامعة: “الحمد لله يبه نجحت بكل المواد وأغلبها تقدير كويس”.. أشعر أنني أسدد له بعض الدين الذين أنا مدينه له هو وأمي،، أشعر أنه يرى نفسه من خلالنا حين نتعلم.. أبي يسعده تقدم أحدنا لدراسة الماجستير ويشجع ذلك كثيرا وبفرح وحماسة ، على عكس أمي التي تراه مرهق لي أو لأخوتي و”ارتاحي يابنيتي” . كلاهما يحبنا بطريقته العظيمة .. كلاهما قدما الكثير وأنا لم أقدم لهما شيئاً، لكني أشعر بامتنان كبير وأشعر أن جزء من رده أن أخلص في تربية أبنائي المستقبليين..

أحيانا لا تدرك عظمة والديك بشكل كاف إلا حين تتزوج ثم تنجب، ستعرف حجم المسؤولية التي كانت على عاتق والديك ، وترجو من الله أن تكون بنفس عظمتهما بما يتلائم مع شخصك ..

أشعر أنها صفقة خاسرة أن أكتب عن أمي وأبي، فلن تستوفيهما تدوينة ولا حتى كتاب .. حذفت من هذه التدوينة الكثير حتى لا تصبح طويلة مرهقة للقراءة لكن الأثر الذي في قلبي من أمي وأبي لا يمكن له الحذف ولا الاستبدال..

آبائنا وأمهاتنا هم عصب الحياة ، من خلالهم نستطيع أن نرى الحياة ونفهمها، هم كتيب الإرشادات حين تصعب الأمور وتبدو غير مألوفة.. هم النور الذي يرافقنا و التوفيق الذي يلهمنا إياه ربنا من أجلهم .. لكلٍّ منا عظمته الخاصة، فلا تبحثو في آبائكم عن التفوق الأكاديمي أو المادي ، ابحثو عن التفوق الأبوي، عن كل الظروف التي شكلتهم و التنازلات التي قدموها بطيب خاطر ونفس.. لا تقيّم أبويك بمقدار الكاش الذي بحوزتك ولا بوسع البيت أو ضيقه.. ففي قلوبهم وسع يكفي العالم أجمع لن تشعر بضيق هذا العالم حتى تفقدهما.. كونو العظماء لأبنائكم وبناتكم فإنه أفضل استثمار أبدي لا يفنى ..

 

 

نوال القصيّر

7 Comments

  1. رد

    Jai

    أبريل 3, 2016

    الله يخليهم لك ويخليك لهم
    نوال أنا أحبك في الله ولله وربنا ما أعرفك ع أرض الواقع ولا يهمني تتبعك بس أحب تصويرك نظرتك للأمور وللحياة دائماً وأبداً ملهمتي أتابعك ع تويتر بصمت وجربت أتابعك ع انستقرام بس ما قبلتي الإضافة نوال إذا في ناس تتجسس عليك ولها سلوكيات ما تحبيها ترى فيه في المقابل ناس تحبك وتؤمن فيك بس مو نشطة ع وسائل التواصل الاجتماعية وأنا وحدة منهم أرجوك لا تخلي هالناس تحرمنا من هالجمال
    والله ما أعرفك بس أعرف إنك تلهميني 🙁

  2. رد

    AlNuha

    أبريل 4, 2016

    ممكن أشكرك لأنّك لكل تدوينة تضيفين صور من تصميمك؟ أو تصويرك؟

    كيف ممكن نشكر الله سبحانه إنه “الجمال حق للجميع” زي ما قلتِ في تدوينة التحدّي؟

    ونشكر الجمال الي يحيي القلوب ويملأها ربيع زي تدويناتك ووجودك ..

    الله يبارك ويزيد يارب ❤️??

  3. رد

    Nawal

    أبريل 6, 2016

    @Jai: ويخلي لك أحبابك يارب..
    وأنا أبادلك المحبة في الله جتى لو لم أعرفك .. يكفيني كلامك الطيب..
    بالنسبة لحساب الانستقرام أنا فقط حاولت الابتعاد عن ضوضاءه وكثرة المتابعين الذين لا أعرفهم .. اخترت أن أضيق الدائرة قليلا حتى أتفرغ لمدونتي.. اطمئني لم أعد نشيطة في انستقرام قررت تحويل كل النشاط في المدونة حتى تصل للجميع ..وشيئا فشيئا سأنسحب من انستقرام .. فيعني مافي شي فاتك 🙁
    وأتأسف كثيرا لو سبب لك هالموضوع ضيق .. ماهو شخصي أبد والله ..

  4. رد

    Nawal

    أبريل 6, 2016

    @AlNuha:
    شكرا يانهى أكثر من ما أستحق والله ..
    الشكر موصول للقلوب الجميلة مثل قلبك والتي لاتتردد في التعبير عن مشاعرها للآخرين 🙂

  5. رد

    فهد

    أبريل 9, 2016

    يستحقان مثل هذا وأكثر، خالي وخالتي شخصيتين عظيمتيّن تجمعهما الطيبة والبساطة والحكمة وكرم النفس، خير أثر لذلك كاتبة هذه الأسطر وخمسة من أخوتها 🙂

    اللهم احفظهما لك، واسأل الله أن يرزقك رضاهم ويرزقهم برك 🙂

    نوال، قلمك سلس يمس القلب ويستفز العقل.

    أرجو الله أن يأتي أحدهم ليكتب عنك وعني مثل هذا ونستحقه مثل المعنيّين بهذا المقال.

  6. رد

    توت

    أبريل 10, 2016

    حفظ الله والديك ورزقهما برك …
    كلماتك رائعه …وسلاسة سردك تجذبني جدا

    دمت بود

  7. رد

    وجدان

    سبتمبر 18, 2016

    الله يخليهم لكي ولا يحرمكي منهم دمعت عيوني وانا اقراء الموضوع الجميل 💕

Leave a comment

Related Posts

لمحة

بكل عاديتي وبساطتي وتعقيدي أكتب وأدوّن حتى أنمو أولاً ومن أجل الأثر ثانياً. مدوّنة نوال القصير عمرها طويل فقد ولدت في عام ٢٠٠٦ تعثرت كثيراً وهُجرت أيضاً ولكنها شهدت أعوام من الالتزام بالكتابة. تطوّرت وتراجعت ثم عادت للحياة مرات كثيرة كنبتة جفّت ثم انعشها المطر. أكتب عن الكتب والقراءة، عن كل المفاهيم والقيم التي أعيشها أو أرغب العيش بها ومعها. مدونة للأيام الجيدة والسيئة.

موصى بقراءته